top of page
بحث

المشقّة وصفوف الحياة الأمامية

أمس كُنت في محاضرة على الانترنت، والطبيب المدرّس كان يمرّ بجدول مضغوط جدًا، بين سهر طويل في المستشفى، إلى محاضرات لطلبة البورد، ثمّ التزامات أخرى -سمعناها عندما كانوا يقاطعوه- بعد أن ينتهي منّا. رغم هذا، أبى الرجل إلّا أن يُكمل لنا وقت المحاضرة كُلّه، وكان يُجيب على كل الأسئلة بصدر مُنشرح، كُنتُ متوترًا حول ما يمرّ به أكثر منه نفسه، بينما كان هو يردّ على الأسئلة مستبشرًا، فكأنّك تُعطيه الذي أنت سائله!

أعجبتني صلابة الرجل الذهنية، أحببتُ هذا أكثر من المحاضرة، وأقمتُ فكري حول الموضوع. خصوصًا وأنّي لم أعد أدوّن بنفس الكثافة مع الضغط الدراسي، أردتُ أنّ أفك هذه العقدة، بالتحدّث عن العقدة نفسها.

منتهى ما نُريد من هذه الحياة هي المُتعة.

لا أحد يحبُّ أن يُوضع في ظروف تجعله يتعذّب، نحن نريد أن نتحسّس أكثر ما يُمكننا من الجنة، ونخطو بعيدين عن النار، في هذه الدنيا، قبل نلاقيهما في دارهما الأخرى.

وجنّة الأرض نوعان، تلك الوقتية، التي تحصل عليها من ضغطات إنترنتية قليلة، فتُلقي عليك صنوفًا من المُتع المؤقتة، التي تعمل على النواقل العصبية في عقلك، فتنقلك من هذا العالم إلى آخر، أكثر حلاوة.

هذا العصير من النواقل الكيميائية المُبهجة، يأتي بسرعة مع النشاطات الدوبامينية المسليّة، وما تأتي به الريح، تُذهبه معها، فتخيّل لو كان غذاء عقلك من هذا العصير المتبخّر المتطاير، كيف يُمكن أن يقوم عُوده ويشتدّ بنيانه؟

وإن ذكرتُ لك المُباحات من هذه الأنشطة، عدّدتُ لك ألعاب الفيديو، ترندات مواقع التواصل، المباريات الرياضية، بعض الأفلام والمسلسلات، وهلم جرًا.

في النهاية، هذه النشاطات لن تروي عطشًا ولن تُطفي ضمأ، ولو كانت هي المقوّم الأساسي لعقلك، فلا تتوقع منه عزمًا وشدّة أمام ما يُلقى عليه من المصاعب. فيكون كالذي يتراجع القهقرى بعد كل معركة، وبعد كل ثُقل ترميه عليه الحياة.

الإعداد الافتراضي لعقل يعتمد على هذا الوقود المتطاير من الدوبامين، هو الهروب من المشقّة التالية التي تُرمى عليه، وإن لم يجد مفرًا، ناح وتباكى.

لكنّ أولئك الذين يُحاربون في الصفوف الأمامية في جبهات حياتهم، قد ألفوا جنّة أخرى، تلك التي تتضمّن تأخيرًا للمُتعة، وتحمّلًا للكَبد والعناء، والتصرّف بفضيلة مع ما يُلقى عليهم.

النوع الثاني، يبدو لي، أنّه قد أتقن هذه التجارة، لأنّ عائدهم ليس فقط مُتعة أكثر على المدى الطويل، لكنّ تحمل هذه الصعوبات، والتصرّف كما لو كُنتَ رجلًا تحبه، أجمل بكثير من فُتيتات اللذّة الوقتية.

فعل الأشياء الجيدة لا يبدو مُمتعًا في الوقت الحالي، لكنّه سيكون لاحقًا.

لو كان التآسي بالنوع الثاني، أمرًا سهلًا مُنسابًا ككلماتي، لكان الكل فضلاء في حيواتهم، ويُحاربون على في صفوفها الأمامية، لكنّ الأمر صعب جدًا.

مُتع الإنترنت الوقتية تؤخذ بأزرار قليلة، لكنّك لا تملك زرًا يُغيِّر مشاعرك السلبية، ولا آخرَ يجعلك أقوى أو أكثر رغبة وحماسًا. لا تستطيع أن تتحكّم بهذه المشاعر كما تفعل مع أطراف أصابعك.

الطريق الوحيد للحصول على هذا هو الخبرة، وهذه لا تأتي ضرورة من عُمرٍ وشيب، إنما من وضعك للتصرّفات الصحيحة، في الأوقات الصحيحة، بشكل مستمّر ودائم.

عندما تضبط أعصابك في موقف، أنت أقرب في المرّة الثانية لأن تضبطها في موقف مشابه.

عندما تتحمّل يومًا شاقًا بوجه وضّاح وثغر باسم، أنت أقرب في المرّة الثانية لأن تُعيد ذلك.

عندما تمرُّ بيوم سيء، ولا تجعله يتحوّل إلى أسوأ بفعل تصرّفاتك، أنت أقرب في المرّة الثانية ليوم أقل سوءًا.

الموضوع أصعب مما سردته، ولا أبدو أنّي في هذا الموضع بعدُ، لكن ما لنا إلّا أن نحاول، وما للمشاعر إلّا أن تُطيع!


كتب المقال : حمزة سالم

٧٧ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

الفقاعة

bottom of page